لماذانخاف الموت ؟
” ليت عندي من القوة ما يمكنني من تحريك القلم ، حتى أشرح سهولة الموت ولذته .. !”
ذلك ما قاله العالم الإنجليزي الكبير ” وليم هنتر ” وهو على فراش الموت يجود بنفسه الأخير ، ويبدو للقارئ – لأول وهلة – أن هذا العالم لا يعني الواقع ، وإنه يريد باللذة ما يشعر به من الخلاص من اعباء الحياة الثقيلة ، أما الجسد ، فإنه يتالم بخروج الروح ، ويتعذب بسكرات الموت ، لأن الإنسان قد فُطِر على الخوف من الموت ، وتخيله شبحاً هائلاً مروعاً يقبل في ظلام ، وينزل بالأهوال والآلام ، فيجفل من ذكره ، ويشعر في اعماق نفسه بكرهه ، ويلتمس النجاة منه إلى الأبد لو استطاع إلى ذلك سبيلاً ..
والخوف من الموت عند الشيوخ أكثر منه عند الشباب ، لأن الشيخ اعتاد الحياة ، ومن اعتاد شيئاً آلفه ، وإن كان فيه ما يؤلمه ..
وإذا الشيخ قال أفّ فما ملّ حياة وإنما الشغف ملّا
وقد قال الفيلسوف الفرنسي ” شارل رينوفييه ” قبيل موته بأيام ، وكان قد بلغ الثامنة والثمانين :
” عندما يكون الإنسان شيخاً ، وقد اعتاد الحياة ، يصعب عليه كثيراً أن يموت ، وأرى أن الشبان أكثر خضوعاً للموت من الشيوخ ، فإنه حينما يجوز الإنسان الثمانين يصبح جباناً ، ويكره أن يموت ، ومتى تحقق دنو أجله تحزن نفسه وتتململ ، وقد درست هذه المسألة من كل وجوهها ، وراجعت في ذهني مراراًَ علمي بدنو أجلي ، ومع ذلك لم أتمكن من أن أقنع نفسي بأني ميت عما قليل ، ليس الذي يهلع في نفسي من الموت هو ” الفيلسوف ” لأن الفيلسوف لا يصح أن يخاف الموت ، بل ” الإنسان القديم ” هو الذي يخافه ، فهذا الإنسان لا شجاعة له ، ليذعن ، مع أنه يجب أن يذعن لما لا بد منه “
نعم .. الإنسان القديم هو الذي يخاف الموت ، ويتوهم أنه مؤلم .. ونحن إنما نخاف الموت بهذا الشعور الوراثي القديم .. أما الموت في حقيقته ، فليس جديراً بأن نخافه هذا الخوف العظيم ..
وتحب أن تتكلم عن الخوف أولاً وعن منشئه .. وللقدماء والمحدثين في ذلك آراء كثيرة ، وهو على كل حال يعرض من توقع مكروه وانتظار محذور ، ولكن لماذا تتوقع المكروه وتنتظر المحذور ، وهما من الأمور الممكنة التي تحدث أو لا تحدث ؟
والجواب عن ذلك ، أن الإنسان وجد في هذه الحياة وهو محوط بكثير من القوى الطبيعية التي تغالبه ، وأنواع الحيوان التي تنازعه البقاء ، وكان لا بد له – وقد فطر على حب الحياة كما فطر عليها كل حي – أن يكافح هذه القوى المختلفة ، فأما غلبته وإما تغلب عليها ، وقد ذهب ضحية هذا الكفاح بين الطبيعة والإنيان ، وبين الإنسان والحيوان ، أرواح إنسانية كثيرة تعذبت وتألمت ، وفقدت هذه الحياة التي كانت تحرص عليها وتكافح من أجل الاحتفاظ بها .
ورأي الإنسان ما حلّ بأخيه الإنسان من هذه الحوادث المحزنة ، وذاك الصراع المؤلم .. وشاهد قبل تحضره ، كيف تنتهز الوحوش غفلته في الظلام وفي الأماكن الموحشة فتفترسه ، أو تخطف أطفاله ، أو تغتصب مادة حياته ، فنشأ عنده الحذر منها ، وأصبح يخشى أن يقع فريسة لها ، وصار يتجنب السير في الظلام والأماكن الخالية ، وجعل يحذر أطفاله من السير ليلاً أو في تلك الأماكن حتى لا يعرّضوا أنفسهم لإفتراس الوحوش ، وروى لهم القصص المخيفة ليزيد في تحذيرهم ، فرسخ هذا الحذر في نفسوهم ، وانتقل إلينا بواسطة العقل الباطن .. فورثناه نحن فيما ورثناه من طباعهم وأخلاقهم ، وأصبحنا على الرغم من وسائل الأمن المختلفة نخشى الإنفراد حتى في الأماكن المعمورة ، ونستوحش من الظلام حتى في غرفتنا الخاصة ، وتهز اعصابنا الخيالات القديمة التي كان يتخيلها أسلافنا ، والتي انتقلت إلينا في عقلنا الباطن ، وهي في الحقيقة أوهام باطلة لا يحسن التسليم بها ..
ولكن بقيت هناك أمور يخافها الإنسان غير الظلام ، والأماكن الموحشة ، كفوات مطمع من المطامع أو ضياع شيء عزيز عليه ، وأساس ذلك الخوف التشاؤم والأنانية وحب النفس وكثرة التفكير في الإخفاق وعواقبه ، ولو أن الإنسان استشعر دائماً التفاؤل ، وشغل نفسه بالأمل القوي والتفكير الصالح ، واطمأن إلى أنه ناجح في كل عمل يزاوله وفي كل مشروع يقدم عليه ، إذن ما وجد سبباً للخوف من فوات مطمع أو ضياع شيء منه ..
على أن كل أمر يخافه الإنسان إما أن يقع أولا يقع .. أي أن وقوعه وعدم وقوعه من الممكنات التي تتساوى ، فلماذا يرجّح وقوع ما يخافه على عدم وقوعه ؟ .. وقد أحسن من قال :
وقل للفؤاد إن ترى بك نزوة من الروع أفرخ أكثر الروع باطله
**
ولكن هناك أمراً يخافه الغنسان ، وهو لا بد واقع – وهو الموت – فلماذا يخاف الإنسان الموت ؟ .. وكيف نعالج هذا الخوف ؟
بخاف الإنسان الموت لأنه يجهل المت ، ولا يدري ما هو على الحقيقة ، ولا يعلم إلى أين تصير نفسه ، أو لأنه يظن أن الموت ألماً شديداً غير ألم الأمراض التي قد تتقدمه وتؤدي إليه ، أو لأنه يعتق أنه يعتقد أنه ستحل به عقوبة بعد الموت ، أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال والمقتنيات .
والسببان الأولان عامان عند جميع الناس ، فكل إنسان يخاف الموت لأنه يجهل حقيقته ويجهل مصيره ، ويظن – بل يعتقد = أن للموت ألماً شديداً غير ألم الأمراض التي تتغلب على الجسم وتفقده الحياة . أما السببان الآخران فقد يكونان عند بعض الناس دون بعضهم الآخر .. ففريق منهم يؤمن بالعقوبة ويخافها ، ويخاف الموت لأجلها .. وفريق منهم لا يؤمن بها ، ولا يعتقد أنه سيعاقب بعد الموت ، كالدهرين والملحدين مثلاً ، ولكنهم يخافون الموت أيضاً ، وكذلك الأسف على المال والمقتنيات ليس عند جميع الناس .. فقد يموت الشخص ، ولا مال عنده ولا ثمين لديه يقتنيه ، ومع ذلك فهو يخاف الموت أيضاً ولو كان معذباً بالحياة ولو لم يكن عنده شيء يأسف على فراقه ([1])
الموت لا يخيف :
والخوف لهذه الأسباب كلها لا يصح الإقتناع به .. وينبغي ألا يقع الإنسان فريسته ، لأن الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها – أي الأعضاء التي تسمى في مجموعها بدناً – كما يترك الصانع استعمال آلاته ، والنفس جوهر غير جسماني ، وهي ليست قابلة للفساد ، ويؤيد هذا الرأي من الوجهة العلمية في العصر الحديث علماء الأرواح ..
فقد برهنوا على بقاء الروح بعد مفارقة الجسم ، وإمكان مخاطبتها بتجارب واقعة وحوادث مشاهدة يغلب على الظن تصديقها ، بل قد تضطر الإنسان إلى تصديقها في بعض الاحيان ، وقد أصبحت عند هؤلاء العلماء من الحقائق الثابته التي لا جدال فيها ..
فإذا كنت تخاف الموت لأنك تجهله وعلمت هذه الحقيقة ، هان عليك الموت .. واطمأننت إلى هذا المصير الذي تتخلص الروح فيه من أدرانها الجسمانية ومتاعبها الدنيوية ..
أما إذا كنت تخاف الموت لأنك تعتقد أنه يؤلم ألماً شديداً ، غير آلام الأمراض التي تتقدم الموت ، فهذا اعتقاد لا أساس له .. لأن الألم يكون للجسم الحي المحتفظ بأثر الروح ، والجسم إنما يحس ويشعر عن طريق هذا الروح .. فإذا صدم ، أو جرح ، أو حدث له حرق ، أو مرض ، تألم لأن إحساسه موجود بوجود روحه ، أما الموت فإنه زوال لهذا الإحساس ؟ وفراق لما كان يحس به ويتألم فالمحتضر لا يشعر بالألم عند مفارقة الروح ، ويؤيد ذلك استسلامه وهدوءه ساعة خروج الروح ، فلا ترى له حركة ، ولا تسمع له تأوهاً ولا أنيناً ، كما كنت تشاهد ذلك منه قبل سكرات الموت ، ولهذا فإن أي مرض من الأمراض – مهما قل شأنه – يشعر الإنسان بألمه لبقاء روحه في الجسم ، وهو جدير بأن يخافه الإنسان لا أن يخاف من الموت .
أما من يخاف الموت لأنه يعتقد أنه ستحل به عقوبة بعده ، فليس في الحقيقة يخاف الموت وإنما يخاف العقوبة ، ومن اعترف بحاكم عدل يعاقب على السيئات لا على الحسنات ، فهو خائف من ذنوبه لا من الموت ، ومن خاف العقوبة فالواجب عليه أن يحذر الذنوب ..
أما من زعم أنه يخاف الموت ، حزناً وإشفاقاً على من يخلفهم من أهله وولده وماله ، ويأسف على ما يفوته من ملاذ الدنيا وشهواتها .. فهذا الذي يحزن هذا الحزن ، ويأسف هذا الأسف ، إنما هو أناني محب لذاته .. وإذا تذكر أن في الحياة إلى جانب هذه اللذة والمتاع آلاماً مختلفة ومفاجآت متنوعة ، ومتاعب تنقص عليه هذه الملاذ ، ثم إذا تذكر أن كثير ممن سعدوا في هذه الحياة بأموالهم وأولادهم قد فارقوا هذه الحياة ، وأن من بقي منهم لا بد له من هذا المصير ، وأن جميع من في الأرض في تلك الهناية سواء ..نقول إذا نذكر ذلك كله هان عليه الموت ، واحتقر هذه الحياة ، وثنى من عنان حرصه وطمعه .
وبعد .. فهل تجد بعد ذلك سبباً وجيهاً للخوف من الموت ؟ .. وهل تظن أنه مؤلم حقاً ؟
إنك إذا استعرضت ما أسلفناه وآمنت به ، فلست تجد في الموت ما يخيف ، ولست ترى ما كان عندك من الخوف إلا وهماً باطلاً ، وقاتل الله الوهم ، فإنه يمثل الضعيف قوياً ، والقريب بعيداً ، والمأمن مخافة ..
قال جوته الشاعر الألماني ، وهو على فراش الموت يجود بنفسه الأخير : ” زيدوني نوراً .. زيدوني نوراً “